لا يخفى على أحد ما تركته نوميديا من إرث حضاري عظيم في شمال إفريقيا، ولا سيما في الجزائر، حيث تتجلى آثارها في مختلف المجالات، ومن أبرزها المجال البحري والملاحة. وقد تجسد هذا في بناء الموانئ، وأماكن رسو السفن، وتنشيط التبادل التجاري البحري. ومن بين الشواهد البارزة على ذلك ميناء “كيزا”.
يقع هذا الميناء في بلدية سيدي بلعطار، على ضفاف وادي الشلف، على بعد نحو ثلاثة كيلومترات من مصبه، وحوالي ثمانية كيلومترات من مدينة مستغانم. يُعد هذا الميناء من أقدم الموانئ المعروفة في المنطقة، ويعود ظهوره إلى الفترة النوميدية، حين كان جزءًا من المملكة النوميدية الغربية تحت حكم الملك ماسسيل، خلال عهد الملك الشهير سيفاكس في نهاية القرن الثالث قبل الميلاد.
كانت مملكة ماسسيل تمتد من وادي ملوية غربًا إلى مدينة سيرتا شرقًا، عاصمة المملكة الماسيلية. وقد عُرف موقع ميناء كيزا من خلال النقوش اللاتينية التي تم اكتشافها، والتي تشير إلى أن النوميديين أنشأوه لأغراض الملاحة التجارية والتنقل بين الأقاليم. وبعد ذلك، احتله الرومان، لكن آثاره لا تزال قائمة إلى اليوم، شاهدة على حركة الإنسان ونشاطه في هذا الموقع.
من بين المعالم البارزة التي وُجدت في الميناء: منشآت حمّامية، معاصر زيت، مساحات باطنية، وعدد كبير من الصهاريج الحجرية تحت الأرض، كانت تُستخدم لتجميع مياه الأمطار. ويُشير هذا إلى أهمية هذه الثروة المائية كمصدر رزق لسكان المنطقة، خاصة أن المناخ ساعد على سهولة تجميع المياه، مما أتاح للنوميديين تعبئة الصهاريج بشكل فعّال. وتعكس هذه المنشآت مدى الإبداع الذي تميز به الإنسان النوميدي الأمازيغي في تلك الحقبة.
كانت المملكة النوميدية الغربية مزدهرة لا تقل عن المملكة الماسيلية، ولا تزال آثارها شاهدة في مناطق عدة من الغرب الجزائري مثل سعيدة ومعسكر ومناطق أخرى. ومع الأسف، تبقى هذه الكنوز الأثرية عرضة للتخريب البشري رغم جمالها وأصالتها. ويكفي أن نقرأ هذه الآثار لندرك أن المكان كان عامرًا بالحياة، مليئًا بالحركة، يحتضن طبيعة خلابة، وموردًا مائيًا جعل منه مركزًا حضاريًا بامتياز.